سورة الممتحنة - تفسير تفسير البغوي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الممتحنة)


        


{رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} قال الزَّجَاج: لا تظهرهم علينا فيظنوا أنهم على الحق فيفتنوا وقال مجاهد: لا تعذبنا بأيديهم ولا بعذاب من عندك فيقولون: لو كان هؤلاء على الحق ما أصابهم ذلك {وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ} أي في إبراهيم ومن معه {أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} هذا بدل من قوله: {لكم} وبيان أن هذه الأسوة لمن يخاف الله ويخاف عذاب الآخرة {وَمَنْ يَتَوَلَّ} يُعْرِض عن الإيمان ويوال الكفار {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ} عن خلقه {الْحَمِيدُ} إلى أوليائه وأهل طاعته.
قال مقاتل: فلما أمر الله المؤمنين بعداوة الكفار عادى المؤمنون أقرباءهم المشركين وأظهروا لهم العداوة والبراءة. ويعلم الله شدة وجد المؤمنين بذلك فأنزل الله {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ} أي من كفار مكة {مودة} ففعل الله ذلك بأن أسلم كثير منهم، فصاروا لهم أولياء وإخوانًا، وخالطوهم وناكحوهم {وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ثم رخص الله تعالى في صلة الذين لم يعادوا المؤمنين ولم يقاتلوهم فقال: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ} {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ} أي لا ينهاكم الله عن بر الذين لم يقاتلوكم {وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} تعدلوا فيهم بالإحسان والبر {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} قال ابن عباس: نزلت في خزاعة كانوا قد صالحوا النبي صلى الله عليه وسلم على أن لا يقاتلوه ولا يعينوا عليه أحدًا، فرخص الله في برهم.
وقال عبد الله بن الزبير: نزلت في أسماء بنت أبي بكر، وذلك أن أمها قتيلة بنت عبد العزى قدمت عليها المدينة بهدايا، ضِبابًا وأقطًا وسمنًا، وهي مشركة، فقالت أسماء: لا أقبل منك هدية ولا تدخلي عليَّ بيتي حتى أستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله هذه الآية فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تدخلها منزلها وتقبل هديتها وتكرمها وتحسن إليها.
أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا قتيبة، حدثنا حاتم عن هشام بن عروة عن أبيه عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: قدمت عليَّ أمي وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومدتهم مع أبيها فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله إن أمي قدمت عليَّ وهي راغبة أفأصلها؟ قال: صليها.
وروي عن ابن عيينة قال: فأنزل الله فيها {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين}. ثم ذكر الذين نهاهم عن صلتهم فقال: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ}.


قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} الآية.
أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب، أخبرني عروة بن الزبير أنه سمع مروان والمسور بن مخرمة يخبران عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالا لما كاتب سهيل بن عمرو يومئذ، كان فيما اشترط سهيل بن عمرو على النبي صلى الله عليه وسلم: أنه لا يأتيك منا أحد – وإن كان على دينك- إلا رددته إلينا، وخليت بيننا وبينه. فكره المؤمنون ذلك وأبي سهيل إلا ذلك، فكاتبه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، فرد النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ أبا جندل إلى أبيه سهيل بن عمرو، ولم يأته أحدٌ من الرجال إلا رده في تلك المدة وإن كان مسلمًا، وجاءت المؤمنات مهاجرات، وكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ممن خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ مهاجرة وهي عاتق، فجاء أهلها يسألون النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجعها إليهم فلم يرجعها إليهم لما أنزل الله فيهن: {إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن} إلى {ولا هم يحلون لهن}.
قال عروة فأخبرتني عائشة رضي الله تعالى عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمتحنهن بهذه الآية: {يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات} إلى قوله: {غفور رحيم}.
قال عروة: قالت عائشة رضي الله عنها: فمن أقرت بهذا الشرط منهن قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بايعتك كلامًا يكلمها به، والله ما مست يده يد امرأة قط في المبايعة ما بايعهن إلا بقوله.
قال ابن عباس: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم معتمرًا حتى إذا كان بالحديبية صالحه مشركو مكة على أن من أتاه من أهل مكة رده إليهم ومن أتى أهل مكة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يردوه إليه، وكتبوا بذلك كتابًا وختموا عليه، فجاءت سبيعة بنت الحارث الأسلمية مُسْلِمةً بعد الفراغ من الكتاب، فأقبل زوجها مسافر من بني مخزوم- وقال مقاتل هو: صيفي بن الراهب- في طلبها، وكان كافرًا، فقال: يا محمد ردَّ علي امرأتي فإنك قد شرطت أن ترد علينا من أتاك منا وهذه طية الكتاب لم تجف بعد، فأنزل الله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات} من دار الكفر إلى دار الإسلام {فَامْتَحِنُوهُنَّ}.
قال ابن عباس: امتحانها: أن تستحلف ما خرجت لبغض زوجها ولا عشقًا لرجل من المسلمين، ولا رغبة عن أرض إلى أرض، ولا لحدثٍ أحدثته ولا لالتماس دنيا وما خرجت إلا رغبة في الإسلام وحبًا لله ولرسوله.
قال فاستحلفها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك فحلفت فلم يردَّها، وأعطى زوجها مهرها وما أنفق عليها؛ فتزوجها عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكان يرد من جاءه من الرجال ويحبس من جاءه من النساء بعد الامتحان ويعطي أزواجهن مهورهن.
{اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ} أي هذا الامتحان لكم، والله أعلم بهنَّ {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} ما أحل الله مؤمنة لكافر {وَآتُوهُمْ} يعني أزواجهن الكفار {مَا أَنْفَقُوا} عليهن يعني المهر الذي دفعوا إليهن {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} أي مهورهن، أباح الله نكاحهن للمسلمين، وإن كان لهن أزواج في دار الكفر لأن الإسلام فرق بينهن وبين أزواجهن الكفار {وَلا تُمْسِكُوا} قرأ أبو عمرو ويعقوب: بالتشديد، والآخرون: بالتخفيف، من الإمساك {بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} والعِصَم: جمع العصمة، وهي ما يعتصم به من العقد والنسب. و{الكوافر}: جمع الكافرة.
نهى الله المؤمنين عن المقام على نكاح المشركات، يقول: من كانت له امرأة كافرة بمكة فلا يعتد بها فقد انقطعت عصمة الزوجية بينهما.
قال الزهري: فلما نزلت هذه الآية طلق عمر بن الخطاب رضي الله عنه امرأتين كانتا له بمكة مشركتين: قُرَيْبَة بنت أبي أمية بن المغيرة، فتزوجها بعده معاوية بن أبي سفيان، وهما على شركهما بمكة، والأخرى أم كلثوم بنت عمرو بن جرول الخزاعية أم ابنه عبد الله بن عمر، فتزوجها أبو جهم بن حذافة بن غانم، وهما على شركهما. وكانت أروى بنت ربيعة بن الحرث بن عبد المطلب تحت طلحة بن عبيد الله، فهاجر طلحة وهي بمكة على دين قومها ففرق الإسلام بينهما فتزوجها في الإسلام خالد بن سعيد بن العاص بن أمية.
قال الشعبي: وكانت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة أبي العاص بن الربيع أسلمت ولحقت بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأقام أبو العاص بمكة مشركًا، ثم أتى المدينة فأسلم، فردها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَاسْأَلُوا} أيها المؤمنون {مَا أَنْفَقْتُمْ} أي: إن لحقت امرأة منكم بالمشركين مرتدة فاسألوا ما أنفقتم من المهر إذا منعوها ممن تزوجها منهم {وَلْيَسْأَلُوا} يعني: المشركين الذين لحقت أزواجهم بكم {مَا أَنْفَقُوا} من المهر ممن تزوجها منكم {ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} قال الزهري: لولا الهدنة والعهد الذي كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش يوم الحديبية لأمسك النساء ولم يرّد الصداق، وكذلك كان يصنع بمن جاءه من المسلمات قبل العهد فلما نزلت هذه الآية أقر المؤمنون بحكم الله عز وجل وأدوا ما أمروا به من نفقات المشركين على نسائهم، وأبى المشركون أن يقروا بحكم الله فيما أمروا به من أداء نفقات المسلمين على نسائهم فأنزل الله عز وجل: {وَإِنْ فَاتَكُمْ}.


{وَإِنْ فَاتَكُمْ} أيها المؤمنون {شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ} فلحقن بهم مرتدات {فَعَاقَبْتُمْ} قال المفسرون: معناه غنمتم، أي غزوتم فأصبتم من الكفار عقبى وهي الغنيمة، وقيل: ظهرتم وكانت العاقبة لكم، وقيل: أصبتموهم في القتال بعقوبة حتى غنمتم، قرأ حميد الأعرج {فعقَّبتم} بالتشديد، وقرأ الزهري: {فعقَبتم} خفيفة بغير ألف وقرأ مجاهد {فأعقبتم} أي صنعتم بهم كما صنعوا بكم. وكلها لغات بمعنى واحد، يقال: عاقب وعقَّب وعقَب، وأعَقب وتعقَّب وتعاقب واعتقب: إذا غنم. وقيل: التعقيب: غزوة بعد غزوة {فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ} إلى الكفار منكم {مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا} عليهن من الغنائم التي صارت في أيديكم من أموال الكفار. وقيل: فعاقبتم المرتدة بالقتل.
وروي عن ابن عباس رضي الله عنه قال: لحق بالمشركين من نساء المؤمنين والمهاجرين ست نسوة: أم الحكم بنت أبي سفيان وكانت تحت عياض بن شداد الفهري، وفاطمة بنت أبي أمية ابن المغيرة أخت أم سلمة كانت تحت عمر بن الخطاب، فلما أراد عمر أن يهاجر أبت وارتدت، وبروع بنت عقبة، كانت تحت شماس بن عثمان، وعزة بن عبد العزيز بن نضلة، وزوجها عمرو ابن عبدود، وهند بنت أبي جهل بن هشام، كانت تحت هشام بن العاص بن وائل، وأم كلثوم بنت جرول، كانت تحت عمر بن الخطاب، فكلهن رَجَعْن عن الإسلام، فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أزواجهن مهور نسائهم من الغنيمة.
{وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} واختلف القول في أن رد مهر من أسلمت من النساء إلى أزواجهن، كان واجبًا أو مندوبًا؟.
وأصله أن الصلح هل كان وقع على ردِّ النساء؟ فيه قولان: أحدهما أنه وقع على رد الرجال والنساء جميعا لِما روينا: أنه لا يأتيك منّا أحد وإن كان على دينك إلا رددته إلينا ثم صار الحكم في رد النساء منسوخًا بقوله: {فلا ترجعوهن إلى الكفار} فعلى هذه كان رد المهر واجبًا.
والقول الآخر: أن الصلح لم يقع على رد النساء، لأنه روي عن علي: أنه لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا وذلك لأن الرجل لا يخشى عليه من الفتنة في الرد ما يخشى على المرأة من إصابة المشرك إياها وأنه لا يؤمن عليها الردة إذا خوِّفت، وأكرهت عليها لضعف قلبها وقلة هدايتها إلى المخرج منها بإظهار كلمة الكفر مع التورية، وإضمار الإيمان ولا يخشى ذلك على الرجل لقّوته وهدايته إلى التقية، فعلى هذا كان رد المهر مندوبًا. واختلفوا في أنه هل يجب العمل به اليوم في رد المال إذا شرط في معاقدة الكفار؟ فقال قوم: لا يجب، وزعموا أن الآية منسوخة، وهو قول عطاء ومجاهد وقتادة. وقال قوم: هي غير منسوخة ويرد إليهم ما أنفقوا.

1 | 2 | 3